هــــــــي وهـــــــــــي
بقلم: ضُحى أحمد الباسوسي
واقفة في مُنتصف الطريق تُراقب كل ما هو أتٍ يميناً ويساراً، تُلاحظ حركات الناس التائهة المُتزامنة مع عقارب الساعة، لم يلتفت أحداً اليها، الجميع يسيرون بخطى ثابتة نحو الأمام. لا أحد يعرف ما يجول بعقولهم أو ما هي الفوضى التي تعتري قلوبهم. بدأ الإزدحام يشتد، وحركة المرور في الطُرقات أوشكت على الأنفجار بسبب تراكم السيارات بعضها فوق بعض.
كان الوقت صيف حار، فتاة في ربيع عمرها تخطت سن العشرين بسنتان واقفة على جزيرة في مُنتصف الطريق أو هكذا يسميها المارين بالشارع، لا أحد يعلم سبب تسميتها هكذا، ربما لأنها منفذ هرب أو طوق نجاة من ذاك الطريق المشهور بأنه طريق الموت...
بشكلٍ يومي تأتي هذه الفتاة لتقف على تلك الجزيرة في نفس توقيت تعامد أشعة الشمس على جسدها النحيل ليُصبح ظلها مُجرد بقعة سوداء بأسفلها... لم يلتفت إليها أحد البتة ، لم يخطر ببال الماريين بجوارها يوماً سؤالها أو الفضول للإستفسار منها عن سبب تواجدها هنا يومياً في نفس المكان ، لم يلحظها أحد، لكنها كانت تُلاحظ الجميع، تراقبهم بدقة..
تتسائل بداخلها "عن ماذا تُرى أبحث؟! لماذا أنا آتي كل يوم إلى هذا المكان؟! تُرى ما الذي ينتظرني؟! هل أنا تائهة أم أبحث عن من ينتشلني من هذا المكان المُريب الذي أصبح مكاناً لأصحاب الدمِ البارد؟! تُرى أين ذهب البشر، أين الناس؟!، هل أنا إنسان صحيح..سليم؟!، الجميع يهرب من أشعة الشمس .. أما أنا فآتي كل يوم أقف تحتها ولا أشعر حتى بحرارتها!!!".
ظلت تُحدث نفسها كثيراً كالطفل التائه، حائرة بين زحمةِ الأفكار، وبين صراع الواقع ، وبين كذب الخيال، مُحاولةً إقناع نفسها بأن كل شيءٍ على ما يرام، حتى وإن كان هذا الزحام يزداد بداخلها، والصراع يشتد، والخيال يصبح أكثر جمالاً، فهذا كلهُ ليس سوى قوةً تتسلل إلى روحها بصمت، بهدوء، وأمل يتسلل إلى الحد الذي لا تشعر نفسها بهِ!، تصمت فجأة وتشرد قليلاً بذهنها كيف؟ ومتى حدث ذلك؟.
بكل صدق و باندهاش.. ما كل هذه القوة؟، من أين جائتني وكيف تسللت إلى روحيِ بهذه السلاسة؟!. إلى أن شعرت بيد خفية، وخفيفة تُربت على كتفيها وصوت دافىء يقول لها "أنا معكِ، أنا هنا لأجلكِ، لقد أتيت فقط حتى أنتشلك من هذا الظلام الذي أنتِ تهربين مني إليه، تهربين إليه بسبب خوفك من تصديق وجودي بجانبكِ وعدم قدرتك على استيعابي".
زادت رهبتها لدرجة أن الدمع تسرب خارج جفنها الدافىء خلسة هرباً إلى خديها المنحوتان برفق كحبة الماس، تساءلت "كيف هذا؟!، فلا حياةَ بقيت بداخليِ المهجور، ولا مزاجٌ يليق بشخصيتيِ، أكره كل شيءٍ بشكلٍ مفاجئ ومُخيف، وبأسلوب لا أستطيع استيعابه، لما هذا المزيج من المشاعر يتسرب بداخلي، لم يعد هناك شغفٌ لأيِّ شيء، حتى تجاه أقرب الأمور لقلبي، أود لو أن أنعزل عن أي شيء، وعن كل شيء، تماما كالطفل الذي يتوارى عن الأنظار عندما يعبث بغرضٍ من أغراض المنزل، أود الفرار، الهرب، حتى من نفسي التي لم أعد أعرفها، لا أعلم لماذا وما الذي حدث؟!".
هي لا تعلم ماذا تفعل، فلا رغبةً تبقت لها بالحياة. نعم هو شعور مُرهِق، مُتعب، يُصارعها بصمت، لا تريد لحظتها سوى أن تتخلص منه مهما كلفها الأمر حتى سمعت هذا الصوت يحدثها من جديد، الصوت الذي لا تعرف مصدره، يطمئنها ويحتضنها بقوة غريبة لم تستطع مقاومتها، تشابكت قبضة يده بيدها.
قال لها " لا تقلقي أنا.. أنتي، وأنتي.. أنا، أنا روحك وروحي أنت، أنا معكِ كظلك، ستجدينني تارة يمينكِ، وتارة يساركِ، تارة خلفكِ، وتارة أمامكِ و تحتكِ، فقط لا تخافي حتى وإن انتصر عليكي الظلام بداخلك يوماً، دائماً تذكري أنني معكي هنا، الروح هي النور، هي المصباح الذي ان خَفُتَ ضوئه لن يخمد.
تذكريني، فوجودي أبدي، لأنني أنتي، وأنتي أنا!.

التعبيراتالتعبيرات